لماذا علينا قراءة الكتب الطويلة؟

محمد الضبع

محمد الضبع

7 - أكتوبر - 2023

7 - أكتوبر - 2023

7 - أكتوبر - 2023

📬 دورة بريديّة مجانيّة
لإتقان فن الكتابة في العالم الرقمي، وبناء قاعدة من القرّاء الأوفياء.

📬 دورة بريديّة مجانيّة
لإتقان فن الكتابة في العالم الرقمي.

جميعنا يعرف أن قراءة كتاب من عدة مجلدات أصعب من قراءة رواية، وقراءة رواية أصعب من قراءة نشرة بريدية كهذه. وكذلك الأمر عند مشاهدة فيلم أو حلقة من مسلسل أو إعلان تلفزيوني. واستخدام هواتفنا للنظر دون معنى بين مقاطع تستمر لعدة ثوانٍ على تِك توك وإنستقرام هي أسهل وسيلة وصلت إليها البشرية لنقل المعلومة أو الرسالة اليوم. 

ما أقصده بالصعوبة هنا هو بذل جهد ذهني أو بدني أكبر من المعتاد. استثمار مواردنا المحدودة في نشاط ما والمخاطرة بشجاعة وانتظار النتائج. 

اعترفت في نشرة الأسبوع الماضي أنني لم أقرأ رواية دوستويفسكي "الأخوة كارامزوف". حاولت لسنوات طويلة العودة إليها لقراءة مجلداتها الأربعة ولكنني لم أستطع. ولم أتوقف عن التساؤل: ما الفائدة الكامنة والخفيّة التي لا تتحقق سوى بقراءة كل تلك الصفحات سطرًا بعد سطر وكلمة بعد كلمة؟ 

راودني هذا السؤال لعقد كامل من الزمن ولم أجد إجابة مقنعة له. كانت أغلب الإجابات التي سمعتها تتعلق بتحقيق مكانة معينة في الأوساط الأدبية واستحقاق رُتبة وهمية في عالم الأدب. وكأننا في مؤسسة عسكرية هرمية يقف على قمّتها أولئك الذين استحقوا رُتب عميد القراءة، ولواء الأدب، وفريق أوّل الكتب الذين حصلوا على رُتبهم بعد قراءتهم لروايات مثل "البحث عن الزمن الضائع" لمارسيل پروست (سبعة مجلدات - 1.2 مليون كلمة) و"الدون الهادئ" لميخائيل شولوخوف (أربعة مجلدات - مليون كلمة). 

ذهبت للبحث عن إجابة لهذا السؤال: لماذا علينا قراءة الكتب الطويلة؟ 

أتذكر حين ذهبت لزيارة معرض الرياض للكتاب لأوّل مرة قبل أكثر من عشر سنوات، قبل وجود خدمات الشحن والتوصيل، كنت أغادر دور النشر ومعي عدد من الكراتين المليئة بالكتب عائدًا إلى شقة كئيبة استأجرتها قرب المعرض. أتذكر قراءتي لرواية "مدام بوفاري" لغوستاڤ فلوبير وحدي في الغرفة حتى منتصف الليل، وأنا أتخيّل أشباحًا تطرق الباب عليّ وتهاجمني. 

كان الأمر صعبًا. السفر إلى الرياض، العثور على شقة لاستئجارها، الذهاب إلى معرض مبكرًا والانتظار في صفّ طويل قبل أن يفتح الحرّاس الأبواب، المشي لساعات طويلة لاكتشاف كل دار وكل إصدار. حمل الكتب والبحث عن سيارة أجرة بسعر معقول والعودة بها إلى الشقة ثم السفر وشحنها إلى المنزل. كل هذا قبل أن أبدأ بقراءة كتاب واحد. 

ورغم كل هذا العناء، إلا أنني كنت أشعر بالسعادة. 

لم أفهم سر تلك السعادة لسنوات، حتى وقعت على أعمال عالم نفس مجري يُدعى ميهالي كسيكسزنتميهالي، والذي قضى حياته وهو يبحث عن سر هذه السعادة وقال: "أفضل لحظات حياتنا لا تحدث في أوقات الراحة. بل تحدث حين نتحدّى الجسد والعقل إلى أقصى الحدود في جهد طوعي لإنجاز مهمة صعبة وجديرة بالاحترام." نعم، هذا ما كنت أشعر به بالضبط. كنت أتحدى جسدي وعقلي بزيارتي لمعرض الكتاب ولم أكن مُرغمًا على الذهاب. لقد كانت تجربة طوعية اخترتها وصمّمتها بنفسي. 

نحن نعيش في عصر تخلصنا فيه من كل عناء وتعب للبحث عن سبل الراحة. وما نسيناه أننا حين تخلصنا من العناء، خسرنا معه السعادة، الشعور بالإنجاز، وبمجازفة السير في طرق مجهولة قد تأخذنا إلى مفاجآت جديدة. 

وبإمكان الكتب الطويلة والثقيلة أن تتحوّل إلى مركبة تأخذنا إلى تلك الحالة التي نخرج فيها من إدماننا على المعرفة المختصرة والعناوين القصيرة لنصل إلى مساحة أخرى مليئة بالمعنى. تلك التي يسميها ميهالي حالة "التدفّق". ويكمن السر في الوصول إلى منزلة في منتصف المسافة بين الملل والقلق. إذا كانت المهمة سهلة جدًا فسنشعر بالملل منها سريعًا، وإذا كانت صعبة جدًا فسنشعر بالقلق وسنتوقف. نجاحنا في تحقيق التوازن بينهما يعني شعورنا بالمتعة، ثم السعادة، ثم التدفّق. وهذا ما يمكن للكتب الطويلة أن تحققه.

نحن نعيش في عصر المعرفة المختصرة، وفي عصر القلق المستمر، وربما كان هنالك رابط مباشر بينهما.

هذه دعوة شُجاعة للتوقّف عن القلق وحساب الجهد، والانغماس الكامل في الرحلة. للاعتراف وتقبّل أن الرحلة طويلة ومُنهكة، وأنها طريقنا الوحيد للخروج من قلق اللحظة. وفهمنا أنه بالعناء والجهد ليس بالراحة سنصل إلى الأسرار. 

علينا قراءة الكتب الطويلة:

- لأن هوسنا المستمر بالراحة، وبحثنا عن ملخصات كل شيء سيحرمنا من الوصول إلى أجمل لحظات حياتنا.

- لأن الكتب الطويلة تمدنا ببصيرة نفسيّة عميقة لا يمكن الحصول عليها من قراءة المقالات أو تصفح العناوين.

- لأن قراءتها تشبه إخراجنا لأفلام في مخيلتنا. نتخيّل المعارك والأبطال بطريقة لا يمكن لأحد مضاهاتها.  

- لأنها تغيّرنا على مستويات عميقة، وتكشف لنا تعقيد الطبيعة البشرية. تساعدنا على فهم التاريخ ودوران عجلة الزمن وإدراك ما يحدث ببطء. 

اختر أطول الكتب في مكتبتك وابدأ بقراءته. ليس لتحصل على رُتبة قرائيّة وهمية تتباهى بها أمام مَن حولك، بل لتصل إلى حالة تستكشف فيها مساحات جديدة من إدراكك للعالم. لا تحاول القفز أو القراءة بسرعة. لا تحاول تحديد موعد لنهاية الكتاب. توقّف عن القلق بشأن السباق وفكّر في اللحظة.

محمد الضبع

للتواصل والاستشارات:

© 2024 محمد الضبع

محمد الضبع

للتواصل والاستشارات:

© 2024 محمد الضبع