فلسطين في طابور الصباح

محمد الضبع

محمد الضبع

21 - أكتوبر - 2023

21 - أكتوبر - 2023

21 - أكتوبر - 2023

📬 دورة بريديّة مجانيّة
لإتقان فن الكتابة في العالم الرقمي، وبناء قاعدة من القرّاء الأوفياء.

📬 دورة بريديّة مجانيّة
لإتقان فن الكتابة في العالم الرقمي.

أتذكر حين وقفت وأنا طفل في المرحلة الابتدائية لألقي قصيدة حفظتها لأول مرة أمام مئات الطلاب.

أتذكر الصمت المُطبق في طابور الصباح قبل اقترابي من مكبّر الصوت لقراءة النص.

أتذكر نُطقي لفلسطين وإخفاقي في تذكّر أحد أبيات القصيدة.

أتذكر تساؤلي عن فائدة كل تلك الأوراق التي كنت أعدّها والكلمات المطبوعة عليها بحبر باهت اللون.

أتذكر الألم والعجز الذي شعرت به وأنا طفل، لأنني لم أملك سوى الكلمات والمجازات واللغة. كبرت وبدأت بالتأمل.

أتذكر مُشاهدة التغريبة الفلسطينية، والاستماع إلى "أيها المارون بين الكلمات العابرة". أتذكر اللحظة التي قرأت فيها محمود درويش وهو يكتب "سجل أنا عربي ورقم بطاقتي خمسون ألف وأطفالي ثمانية وتاسعهم سيأتي بعد صيف."

أتذكر الدهشة التي شعرت بها حين اكتشفت أن هناك طريقة للحديث عن هذا الألم، وهناك لغة وكلمات ملائمة للوصف. لغة أدركها القليل منّا، وتمكنوا من الوصول إليها لمساعدتنا على التعبير عمّا نشعر به.

كبرت وبدأت بالكتابة. أدركت بعد سنوات طويلة من الكتابة أن الشعر ليس محض كلمات موزونة ومقفّاة. أن الفن ليس محض ألوان سُجنت في إطار من الخشب. أن الأغنيات ليست الصوت يُصدره الوتر، بل جميعها طُرقنا المبتكرة للنجاة حين يغلبنا الألم. حين تفشل الحجج ويفشل المنطق. حين يتوقف العقل الواعي والمدبّر عن قدرته على تفسير ما يحدث وما نشعر به.

يقول الممثل والكاتب إيثان هوك: “معظمنا لا يفكّر في الشعر، ولا نهتم لقصائد آلان غنسبرغ أو غيره من الشعراء، حتى يموت لنا شخص عزيز، حتى نذهب إلى جنازة، نفقد طفلًا، أو نقع في الحب. فجأة نصبح مهووسين بمحاولة فهم ما يحدث. هل شَعَرَ شخصٌ قبلنا بهذه المشاعر؟ وكيف تمكّن من النجاة؟ حينها لا يصبح الفن والشعر ترفًا، بل ضرورة وحاجة أساسية للنجاة.”

هذه إحدى اللحظات التي بإمكاننا جميعًا اللجوء فيها إلى الكتابة والفن. لندع محللي الأخبار وخبراء الحروب والمدفعيات يتفرغون لمواجهاتهم الكبرى، ولنَعُد نحن إلى ما نجيده ونعرفه: ابتكار طرق فريدة للتعبير عن الوجع والقبض على المشاعر الخانقة التي تصعد وتتسرّب في الهواء. لنمنح الأجيال القادمة وثائق ومستندات للمشاعر تُعينهم على تتبّع التاريخ الشعوري لما مرت به فلسطين، وما نمر به من لحظات صعبة لا يمكن للأرقام أو للتقارير الصحفية القبض عليها.

ترك لنا محمود درويش أهم مستند تاريخي للمشاعر عن نكبة عام 1948 بعد تهجير الفلسطينيين من أرضهم حين كتب: “إلى أين تأخذني يا أبي؟ إلى جهة الريح يا ولدي ومن يسكن البيت من بعدنا يا أبي؟ سيبقى على حاله مثلما كان يا ولدي! … لماذا تركتَ الحصان وحيدًا؟ لكي يُؤْنسَ البيتَ، يا ولدي، فالبيوتُ تموتُ إذ غاب سُكَّانُها..”

فلنكتب ولنرسم ولنبتكر الفن لتوثيق التاريخ الشعوري لما تمر به فلسطين. سيتطلّب الأمر الكثير من الوقت، والكثير من الوجع، والصبر، والانتظار. ثم الاقتراب من قلب الألم ومواجهة الفاجعة. ثم العودة باللغة والصورة والصوت، وبالطريقة الملائمة للقبض على ما لا يمكن نسيانه أو إنكاره.

محمد الضبع

للتواصل والاستشارات:

© 2024 محمد الضبع

محمد الضبع

للتواصل والاستشارات:

© 2024 محمد الضبع