كيف أعلنت التقنية نهاية عصر الحب

محمد الضبع

محمد الضبع

11 - نوڤمبر - 2023

11 - نوڤمبر - 2023

11 - نوڤمبر - 2023

📬 دورة بريديّة مجانيّة
لإتقان فن الكتابة في العالم الرقمي، وبناء قاعدة من القرّاء الأوفياء.

📬 دورة بريديّة مجانيّة
لإتقان فن الكتابة في العالم الرقمي.

هل يزعجك أنك متاح لاتصالات ورسائل الآخرين طوال الوقت؟ وهل يقلل اتصالك الدائم بالآخرين من مشاعر شوقك وحبك لهم؟

في سنة 2002 كنت في المرحلة المتوسطة واستعرت هاتف والدي لأول مرة ليوم كامل، وتغيّرت حياتي بعد هذا اليوم للأبد.

هنا كتبت عن تلك القصة.

كيف أعلنت التقنية نهاية عصر الحب

ما زلت أتذكر بوضوح ذلك اليوم الحار والمرهق من صيف سنة 2002.

كنت في الصف الأوّل المتوسط، وخضت للتو ماراثون جدال طويل مع والدي، انتهى بنجاحي في استعارة هاتفه المحمول من نوع Alcatel One Touch. أخذت الهاتف الصغير إلى أول دورة تدريبية حضرتها في حياتي عن قبعات التفكير الست. حررت الهاتف من غطائه البلاستيكي الشفاف، ووضعته بحذر لينزلق ويستقر في ظلام جيبي للساعات الست القادمة.

جلست في الدورة بسعادة غامرة؛ أنا متصل بالعالم وبإمكان أيّ شخص الاتصال بي في أي لحظة.

بدأت بتفقّد الهاتف كل نصف ساعة للتأكد من عدم ورود أي اتصال. ثم انخفضت المدة إلى عشر دقائق. ثم إلى خمس دقائق. لم أنتبه لشيء مما قاله المدرّب عن القبعات الست، ولم أدرك أنني بجلبي لهذه المعجزة التقنية الصغيرة، كانت علاقتي بالواقع وبمَن حولي على وشك أن تتغيّر للأبد.

انسحبت خلال فترات الاستراحة بعيدًا عن بقية الطلاب المشغولين بتناول سندويشات الجبن وشرب السن توپ البارد، لأحدق في الكاتيل بأضوائه الزرقاء الساحرة، وأتفقد المكالمات الفائتة والرسائل التي لم يُرسلها أحد.

لم أحتج الهاتف. ولم يتصل بي أحد. وانتهى بي الأمر وحيدًا وجائعًا بعد أن التهم الطلاب كل ما تبقى من السندويشات. وما زلت حتى اليوم لا أعرف ما معنى القبعات الست.

الحرب ضد الشوق

مثل كل الآباء الذين تعرضوا للغزوة التقنية تلو الأخرى منذ ظهور الإنترنت، الكاميرات الرقمية، الرسائل النصية، وحتى انتشار الهواتف في أيدي الأطفال، كان والدي متوجسًا من هذا الهاتف، وكان على حق.

لم يدرك عقلي الصغير أنني في تلك اللحظة شهدت بداية إعلان الحرب ضد الشوق.

نعم، الشوق. في تلك اللحظة ماتت تجربة الشوق بشكلها الحقيقي. غادرتُ العالم القديم ودخلت إلى عوالم من الاحتمالات. عبثت بالوصفة الأصلية للواقع. تلاعبت بكيمياء الشوق. لم يعد غيابي عن المنزل حقيقيًا. بإمكاني الاتصال وبإمكان الآخرين الاتصال بي.

عندما كنت في الدورة التدريبية كنت أخاف أن تفوتني مكالمة أو رسالة، ففاتتني الدورة كاملة وخسرت فرصة ربما تمكنت فيها من تكوين صداقات تستمر عمرًا بأكمله.

الكلمة الفاصلة هنا هي الخوف. نعم، لقد كنت خائفًا. خوفي حين كنت صبيًا من الذهاب ليوم كامل وحدي خارج المنزل ورغبتي في تجنّب الألم دفعني للحرص على أخذ الهاتف معي.

استغلّت شركات التقنية هذه الغريزة الفتاكة: الخوف واستخدمتها وقودًا لاختراعاتها. واخترعت لكل نوع من أنواع الخوف تطبيقًا وموقعًا. فكّر في الأمر:

لخوفنا من الضياع: اختُرعت تطبيقات الخرائط ومشاركة المواقع.

لخوفنا من الحاجة: اختُرعت تطبيقات الدفع المؤجل.

لخوفنا من الوحدة: اختُرعت تطبيقات المواعدة.

لخوفنا من النسيان: اختُرعت تطبيقات تنظيم الوقت وحفظ المهام.

ولخوفنا من مرور الزمن وتسرّب اللحظات: اختُرعت تطبيقات التقاط الصور ونشرها.

حَبَسْنا كل هذا الخوف وفشلنا في مواجهته. إنها إحدى علامات هروبنا من الحياة.

الخوف عاطفة مثل أيّ عاطفة أخرى. علينا مواجهتها بشجاعة وتعلم الدروس منها لنتمكن من النمو والتقدم والانتقال للمرحلة القادمة من حياتنا. لكننا في العقود القليلة الماضية رفضنا ذلك وتصرفنا مثل مجموعة مراهقين لا يريدون النضج ومواجهة العالم.

ماذا سيحدث لمجتمع بشري كامل لم يتعامل مع خوفه، وقرّر تنفيذ عملية هروب كبير من عواطفه ليتبع عددًا من قادة التقنية الذين فشلوا في مواجهة مشاعرهم وثاروا على الطبيعة البشرية؟

لا أريد الإجابة عن هذا السؤال، لأن الإجابة ستفزعك.

ماذا عنك؟ ما هي ذكرياتك مع أول هاتف استخدمته؟ وكيف تتعامل مع بقائك متصلًا ومتاحًا طوال الوقت لرسائل ومكالمات الآخرين؟

محمد الضبع

للتواصل والاستشارات:

© 2024 محمد الضبع

محمد الضبع

للتواصل والاستشارات:

© 2024 محمد الضبع