تخيّل لو أن عنترة كان على اتصال دائم بعبلة طوال فترة الحرب.
لا أظنه سيكتب معلقته أو سيشتاق إليها. بإمكانه رؤية "الدار دون توهّمِ" عبر حساب عبلة على إنستقرام! وبإمكانه الاتصال بها باستخدام أربعين تطبيقًا مختلفًا، وربما تمكن من محادثتها في الميتافرس. لا حاجة له لكتابة معلقة يخلدها التاريخ لأكثر من ألف سنة.
وربما كان مصابًا بالاكتئاب لا يرد على الرسائل التي تصله منها، وسنجده مدمنًا على مشاهدة مقاطع لشعراء معلقات آخرين أكثر انتشارًا منه على تك توك.
هذه ليست دعوة للتوقف عن استخدام التقنية. على العكس، هذه دعوة للوصول إلى نوع جديد من الابتكار. الابتكار الذي يخدم البشرية ويحل مشاكلها الحقيقية، وليس الابتكار الذي يستخدم رغباتنا وخوفنا ورعبنا من الألم والفقد لبناء اقتصادات مليارية تستخدم أسوأ ما فينا وقودًا لها.
لماذا يتوجب علينا بصفتنا مستخدمين التفكير في كل الأعراض السلبية لكل منتج جديد لو كانت التقنية والابتكار في عصرنا اليوم تعمل بشكل صحيح؟
جميعنا يعرف أن الطريقة التي يعمل بها الابتكار في عالمنا اليوم معطوبة وحان الوقت لإصلاحها.
هذه دعوة للتوقف عن استخدام الخوف وقودًا للابتكار. الخوف عاطفة بشرية وُجدت لسبب. بإمكاننا التعامل معها والشعور بها والتعلم منها واستثمارها بشكل إيجابي لصالحنا.
بإمكاننا استقبال الشوق والألم بصدر رحب لنكتشف أن الطريقة الوحيدة للوصول إلى المعنى والنضج تكمن في عبور جسر الألم للوصول إلى الحب والحياة.
ماذا لو عثرنا على طريقة أخرى للابتكار. لا تبدأ من الخوف، بل من الأمل.
الأمل في الوصول إلى عالم مليء بالصحة والسلام. نعيش فيه ونواجه مشاعرنا وننضج ونتعلم من أخطائنا. نخرج فيه كل صباح لممارسة الرياضة واكتشاف حياتنا. نلتقي فيه بأحبابنا حين يتسع الوقت، ونشتاق إليهم في غيابهم. نتوقف عن العيش فيه أشباحًا متصلة طوال الوقت بشبكة واحدة تتغذى على خوفنا وتتركنا هياكل مُرهقة متوقفة عن النمو العاطفي.
في العقود القليلة الماضية أعلنت البشرية الحرب على مشاعر الجوع والتعب والملل والشوق أيضًا.
وأنا هنا لأقول إنها حرب في الاتجاه الخاطئ، وعلى عدو ليس له وجود.
الشوق يخلق المعنى ولولاه ما كانت فرحة لقاء.
التعب يخلق المعنى ولولاه ما كانت راحة النوم.
الجوع يخلق المعنى ولولاه ما كانت لحظة الشبع.
الموت يخلق المعنى ولولاه ما كانت .. التجربة الهائلة للحياة.
غدًا في حضارة مستقبلية تعلمت من أخطائنا، سيقرر أحدهم ترك هاتفه في المنزل للسفر إلى مكان بعيد. سيشعر بالألم والشوق لأصدقائه وأهله ووطنه. سيغمره الألم ولن يجد مهربًا منه وسيظن أن حياته ستنتهي.
سيضطر لتحويل شوقه إلى رسائل يكتبها لهم كل صباح، ولأنه لا يملك سوى مفكرة وقلم سينجح في الكتابة لساعات طويلة كل يوم.
سيعود إليهم بشوق لا حد له. سيصغي لهم حين يتحدثون. لن ينشغل بهاتفه، وستكون سعادته باللقاء أكبر.
أمّا ألمه، فسيزول ويتجاوزه الزمن. سيُنسى ولن يكون له أثر.
لسنوات طويلة تعلقت بهاتفي. لم أفوت مكالمة أو رسالة بريدية منتظرة بينما كانت اللحظات
تتسرب من بين يدي والأشخاص يغادرون من أمامي وأنا أحدق في شاشة هاتفي.
لهذا فإنني أضع هاتفي الآن. أرسل هذه الرسالة إليك وأقطع اتصالي بالإنترنت وأغلق هاتفي لعدة ساعات حتى أشعر بالشوق لمن أحبهم من جديد.
ماذا عنك؟ ما شكل مستقبل في مخيلتك بعد عقود من الآن؟ وهل تؤمن بإمكانية وصولنا إلى حضارة تتجاوز كل مشكلاتنا الحالية مع التقنية؟