لماذا تتغيّر قصتك التي حكيتها لصديقك في مكالمة طويلة حين تبدأ بكتابتها على الورق؟
ما الفرق بين سرد القصة لشخص واحد على الهاتف، وبين كتابتها لعدد كبير من القرّاء؟
حين تبدأ بكتابة القصة قد:
تحذف النكات المضحكة (لخوفك ألّا يفهمها أحد).
تحذف آراءك الحادة وغير المنطقية عن الشخصيات (لتردّدك من كشف شخصيّتك وإعلان ما تؤمن به).
تُغيّر الزمن وربما تتخلّص منه (لإخفاء الحقائق وتمويهها).
تحذف النبرة المتهكمة والصادقة (لظنك أنها غريبة ومزعجة للقارئ).
تحذف أسماء الشوارع والمحلات التي دارت فيها القصة.
ماذا تبقى؟
كتابة باهتة خالية من الشخصيّة والفكاهة والعمق .. وربما الصدق. كتابة لن يقرأها أحد.
لو اتصلت على صديقك مرة أخرى وقرأت له القصة بعد كتابتها، ربما يغلق الهاتف في وجهك.
هذا الصديق الذي تتحدّث معه على الهاتف هو ذاته الذي سيقرأ نصوصك، لذلك فهو يبحث عن كل هذه المواد الدسمة من شخصيّتك وطاقتك وروحك وحكاياتك.
القارئ يبحث عن التفاصيل، عن الأسماء، عن المعلومات السريّة، وعن رأي الكاتب القوي وشخصيّته الطاغية.
قبل أيام قرأت مقال ديڤيد فوستر والاس "فكّر في جراد البحر" ورغم كتابته له قبل عشرين عامًا، إلا أنني شعرت أنه كتبه لي وهو يصف رحلته في مهرجان مَين لجراد البحر. لا يترك ديڤيد فوستر والاس تفصيلًا أو معلومة أو خاطرة في ذهنه إلا ويذكرها بطريقة جادة ومتهكمة في الوقت ذاته.
كتب والاس تقريرًا صحفيًا لشخص واحد، ليخبره عن مشاهداته في مهرجان جراد البحر، وما زالت كلماته تنتقل بصمت من شخص إلى آخر وتعيش وتخلد بيننا.
الكتابة لشخص واحد تعني اتصالك العميق بحواسك، وقدرتك على سرد القصص الصادقة والمتخيّلة لإنسان يجلس أمامك، حذفك لكل ما هو إضافي وزائد، وانتقالك برشاقة بين الأحداث التي ستُدهش وتُلهم وتثير فضول قارئك.
الكتابة لشخص واحد تشبه جلوسك على مائدة العشاء لتحكي لوالديك عن صراعك مع معلمٍ ظلمك في اختبار الجغرافيا بعد يوم مدرسي طويل، أو عن الملابسات التي أدّت لتفويتك لطائرة كانت ستعيدك إليهما.
لكل هذه الأسباب، اكتب لشخص واحد، اكتب لنفسك، اكتب لصديقك، اكتب لأقرب شخص إليك، وسيقرأ كلماتك العالم، لأننا جميعًا الشخص نفسه.