قبل شهر من اليوم أعلنت تأسيس مجتمع مئة يوم من الكتابة لمساعدة الكتّاب على الالتزام بالكتابة لمئة يوم دون انقطاع.
خلال شهر واحد فقط تجاوز عدد كتّاب المجتمع 2,000 كاتب وكاتبة.
ما سبب انضمام كل هؤلاء الكتّاب إلى المجتمع في هذه الفترة القصيرة، وما سر التزامهم بكتابة آلاف النصوص يوميًا؟
أليس الأمر صعبًا؟ ألا يتطلب منهم الكثير من الجهد والصبر والشجاعة للكتابة كل يوم وكل أسبوع لمئة يوم؟
لماذا يُسرع كل هؤلاء الكتّاب إذن لإضافة عبء آخر إلى جدولهم اليومي؟
الإجابة: لأنهم يرغبون في الخروج من دور المستمع والمتلقي، إلى دور المُنتج المبدع، صاحب الحرفة، صاحب العهد، مَن يعمل على مشروع يتجاوز فيه العقبات، ويكتشف ذاته وقصته ويحكيها للعالم.
ولهذا السبب بالضبط قرّرت تأسيس مجتمع مئة يوم من الكتابة، وقبله نشرة رسالة السبت.
بعد سنوات طويلة من "استهلاك المحتوى" على الإنترنت، أظننا وصلنا إلى نقطة لم نعد قادرين فيها على الجلوس ليوم آخر والغرق في محيط لا ينتهي من المقاطع، وحلقات البودكاست، والكتب، والأفلام التي ستبتلعنا قبل أن ننتهي منها.
بعد قراءة كتب التراث، وروائع الأدب العالمي، بعد تصفح المجلات والدوريات في الثقافة والعلوم، بعد الاستماع إلى مئات حلقات البودكاست في مختلف المجالات والمعارف، لسبب ما، لا يبدو أن استهلاك كل هذا المحتوى قادرٌ على صنع تغيير حقيقي في حياتنا.
كلما زاد استهلاكنا، زاد شعورنا بالنقص، والخوف، وكبرت الأحلام التي نريد الوصول إليها، وكبر معها الشك في قدرتنا على تحقيقها.
لن يحدث التغيير الذي نريد رؤيته في أنفسنا وفي العالم إذا اكتفينا بالتلقي.
مهما بلغ عدد الكتب التي قرأناها، أو حلقات البودكاست التي استمعنا إليها، أو الصور والأعمال الفنيّة التي تأملناها، إذا لم نتبع كل هذا التلقي بقطع عهدٍ محدد وصارم بالالتزام بالعمل والإنتاج، سنظل عاجزين عن الوصول إلى التحوّل الذي نأمله وننتظره.
لكل هذه الأسباب علينا إتقان فن التعهد بفعل الأشياء الصعبة.
الأشياء الصعبة التي وصفها عالم النفس المجري ميهالي كسيكسزنتميهالي حين قال: "أفضل لحظات حياتنا لا تحدث في أوقات الراحة. بل تحدث حين نتحدّى الجسد والعقل إلى أقصى الحدود في جهد طوعي لإنجاز مهمة صعبة وجديرة بالاحترام."
يبقى السؤال: أين نذهب للالتزام بعهودنا؟ وأين نجد مَن يشاركنا اهتماماتنا وأحلامنا؟
الإجابة ليست منصات التواصل "الاجتماعي" قطعًا، لأنها لم تعد مكانًا نستطيع الاجتماع فيه.
متى كانت آخر مرة استطعت فيها نشر فكرة جديدة أو تجربة حول أمر تريد استكشافه على منصات التواصل دون القلق بشأن الردود الغريبة أو السلبية التي قد تصلك؟
الغالبية العظمى منّا ينتهي به الأمر ليصبح مستهلكًا سلبيًا لما يُنشر من محتوى دون قدرته على الإنتاج والمشاركة في غابات وسائل التواصل الموحشة.
في بدايات الإنترنت -قبل تدفق طوفان المحتوى- كنّا نشارك أفكارنا، ونكتب معًا وننتمي إلى عائلة صغيرة نعبر فيها عن أحلامنا وأهدافنا، ولم يعد هذا الأمر ممكنًا اليوم.
لهذا السبب التحق كل هؤلاء الكتّاب بمجتمع مئة يوم من الكتابة، لأنه مجتمع خاص ومميّز يعيدنا إلى العهد القديم لمنصات التواصل حين كانت مكانًا صادقًا لتبادل الأحاديث والعمل مع مجموعة صغيرة من الأصدقاء والغرباء.
في بيئة نتفق فيها على "القيم" التي نؤمن بها، و"الهدف" الذي نسعى للوصول إليه.
حين تتفق القيم والأهداف، تتحول البيئة إلى مكان مذهل للأفعال النبيلة.
دُهشت من حجم العطاء الذي رأيته في مجتمع مئة يوم من الكتابة منذ إطلاقه.
- أكاديميون يهدون النصائح لطلاب يكتبون أبحاثهم الأولى.
- أطباء وخبراء يستقطعون دقائق من يومهم لوضع الفوائد اللغوية لمَن يحاولون تحسين نصوصهم.
- كتّاب مبتدئون يحفّزون بعضهم على الالتزام والاستمرار في الكتابة.
مئات التعليقات تتابع في بعض منشورات المجتمع، فقط لأن أعضاء المجتمع يتفقون في الرؤية وفي الهدف ويريدون العمل معًا لصنع تغيير حقيقي في حياتهم.
هذه هي الفكرة الأصليّة للإنترنت. الفكرة التي عشناها جميعًا في بداياته وأراها تعود اليوم في المجتمعات الافتراضية التي تستند على قيم قوية وأهداف مشتركة.
ما رأيته خلال الشهر الأول في مجتمع مئة يوم من الكتابة ذكّرني برسالة الشاعر الأمريكي آلان غنسبرغ في نهاية فيلم مارتن سكورسيزي Rolling Thunder Revue عن جولة المغني الأمريكي بوب ديلان مع مجموعة مذهلة من الموسيقيين والشعراء والفنانين في سبعينات القرن الماضي بعد نهاية حرب ڤيتنام. أترككم مع كلمات غنسبرغ:
“You، who saw it all، or who saw flashes and fragments,
take from us some example,
try and get yourselves together, clean up your act,
find your community,
pick up on some kind of redemption of your own consciousness,
become mindful of your own friends, your own work, your own proper meditation، your own art, your own beauty,
go out and make it for your own Eternity”