يوم في حياة مُترجم كتب

محمد الضبع

محمد الضبع

06 - أبريل - 2024

06 - أبريل - 2024

06 - أبريل - 2024

📬 دورة بريديّة مجانيّة
لإتقان فن الكتابة في العالم الرقمي، وبناء قاعدة من القرّاء الأوفياء.

📬 دورة بريديّة مجانيّة
لإتقان فن الكتابة في العالم الرقمي.

ماذا لو استطعت التجسس على حياة مُترجم كتب ليوم واحد؟

ماذا يدور في عقله؟ كيف يقضي ساعاته؟

وما هي المعارك التي يخوضها وحده في غرفته لإنهاء الترجمة؟

هذه خمسة مشاهد من يوم في حياة مُترجم أدبي يعمل في عالمه الصامت لترجمة رواية.

*ينقل المترجم الرواية في هذه المشاهد من اللغة الإنجليزية إلى العربية.

المشهد الأول: منعطف غير متوقع.

يصب المترجم كوب القهوة الثاني، ويقرر تأخير الإفطار لساعة إضافية.

ينظر إلى النافذة، يرى الشمس وهي تصعد ببطء في سماء مدينته الصغيرة. يقف في غرفته المليئة بالنباتات، وينظر عبر الزجاج إلى الشمس وكأنه يتأمل لوحة في متحف فارغ. يفتح الرواية مبتسمًا ومتشوقًا للترجمة. تتغيّر ملامحه ببطء حين يقلب الصفحة الأولى ليكتشف أول مشكلة ستواجهه في الترجمة: الاقتباس الذي اختار الكاتب وضعه في مقدمة الرواية، كُتب بلغة ثالثة: الفرنسيّة!

يجوب المترجم الغرفة ويفكّر في هذا المأزق: هل يُترجم الاقتباس إلى العربية أم يتركه؟يبدأ الجدال في عقله:- الاقتباس مهم لفهم دوافع شخصية الرواية، والاقتراب من نوايا الكاتب، هل سيتمكن القارئ في العربية من فهمه إن تركته دون ترجمة؟ -  لو قررت ترجمته إلى العربيّة، كيف سيعرف القارئ أنه كُتب في النص الأصلي باللغة الفرنسية؟

المشهد الثاني: معركة التنسيق.

بعد ساعة من الترجمة، اتخذ المترجم قرابة الـ 100 قرار.

قرارات في اللغة، في أسماء الشخصيات، تنسيق النص، محاذاة الاقتباسات، نظام الحواشي، جداول الملحقات.يشعر المترجم بالإرهاق والجوع. يتجه إلى المطبخ لإعداد بعض الطعام والاستماع إلى الموسيقى للاسترخاء والتوقف عن التفكير في النص.

استخدم الكاتب التنسيق المائل للخط لعرض أسماء الكتّاب الذين اقتبس نصوصهم، ولتمييز الرسائل النصية في الحوار بين الشخصيات، ولكنه لم يستخدمه لتمييز عناوين الكتب واكتفى باستخدام الكتابة بالأحرف الكبيرة في الإنجليزية وهذا غير ممكن في العربية!

لا يتوقف عقله عن التفكير ولا يستطيع الاسترخاء. تخطر له فكرة لحل مشكلة التنسيق: ماذا لو صممت نظامي الخاص واتبعته طوال الترجمة!

يترك الطعام ويعود إلى مكتبه لرسم معالم النظام قبل نسيانه.

المشهد الثالث: درس في الجغرافيا والجليد.

يستمر المترجم في الترجمة، ويلاحظ استرسال الكاتب في الحديث عن الحياة في أرخبيل نرويجي في المحيط المتجمّد الشمالي وعن الدببة القطبيّة وعاداتها في منتصف النهار.

يبحث المترجم عن بعض الأبحاث العلميّة المُحكّمة للتأكد من صحة الترجمة، وفصل الحقائق العلمية عن خيال الكاتب. يتأكد من وجود الأماكن التي ذكرها المؤلف، ويرسم خريطة صغيرة لها في دفتره للعودة إليها. ستستمر هذه الخريطة في النمو وستصبح خريطة للعالم مع تطوّر أحداث الرواية وسفر البطلة إلى قارات بعيدة.


المشهد الرابع: استراحة لم تكتمل.

يقرر المترجم الخروج للسير في الحديقة المجاورة للمنزل لاستنشاق بعض الهواء ورؤية الشمس وتناول غدائه.

يتصفح هاتفه ويجد حلقة بودكاست لمستكشف يتحدث عن رحلاته في الأرخبيل النرويجي ويقرر الاستماع لها لفهم وتصوّر حقيقة المشاهد التي يسردها الكاتب. بعد نصف ساعة من الاستماع يدوّن المترجم بعض الاقتراحات في هاتفه:

- الحوت الأحدب وليس الحوت.

- علم الأنهار الجليدية وليس علم الجليد.

- التأكد من أسماء الأنهار: كونغسبريين؟ ناثورستريين؟

- ماذا عن نوع المسدس؟ ابحث عن أنواع المسدسات والبندقيات المستخدمة في القطب الشمالي للحماية ضد الدببة.

المشهد الخامس: 7 آلاف خطوة، أبحاث علمية، ومعاجم ضخمة.

يعود المترجم للعمل على النص من جديد ويبدأ بإضافة كل المعلومات التي جمعها من الأبحاث العلمية ومن الحلقة التي استمع لها إلى تعليقات فصل الرواية.

تبدأ شخصيات جديدة بالظهور في الرواية. يتساءل المُترجم إن كانت هذه شخصيات تاريخيّة أم متخيّلة، يضعها في جدول ملحق في ملف آخر ويستمر في الترجمة.

يرد المترجم اتصال من أحد الأصدقاء. ينظر المترجم إلى عدد الصفحات التي أنجزها ويدرك أنه تجاوز الخمس عشرة صفحة اليوم، يقرر الرد على الهاتف والتوقف عن الترجمة.

يتحدث مع صديقه على الهاتف وهو يغلق قواميس اللغة المنتشرة على مكتبه، ويجمع أوراقه وملاحظاته ويضعها على الرف.

يستشير صديقه في بعض الاختيارات اللغوية، ويطرح عليه عدة أسئلة:

- هل يهمك معرفة اللغة التي كُتب بها الاقتباس في أوّل الرواية؟

- هل سمعت عن الحوت الأحدب من قبل؟

- ماذا تعرف عن ذبذبات الأنهار الجليديّة؟

- كيف ستتصرف إن واجهت دبًا قطبيًا في رحلة إلى القطب الشمالي؟

يدوّن المترجم بعض الاقتراحات بعد نقاشه مع صديقه.

انتهى اليوم، وهذه محصلة يوم المترجم:

- مشى 7 آلاف خطوة.

- ابتكر نظامه الخاص في تنسيق النصوص واستخدام الأقواس والنص المائل للدلالة على معانٍ مختلفة.

- قرأ أبحاثًا عن القطب الشمالي واستمع إلى بودكاست مليء بالمعلومات عن الحيتان الحدباء والدببة القطبيّة.

- تصفّح عدة معاجم وتنقّل بين ثلاث لغات للعثور على خيط رفيع يربطها ببعضها - دون ملاحظة القارئ لما يحدث.

- ترجم 15 صفحة.

- شرب ثلاثة أكواب قهوة، وتناول إفطارًا متأخرًا، غداءً في الحديقة، وربما يخرج لاحقًا لتناول العشاء مع الأصدقاء.  

يخلد للنوم بعدها ويستيقظ في الصباح الباكر للعمل على الترجمة من جديد.

محمد الضبع

للتواصل والاستشارات:

© 2024 محمد الضبع

محمد الضبع

للتواصل والاستشارات:

© 2024 محمد الضبع