لماذا تتغيّر لغتنا حين نكتب، وكأننا أشباح قادمة من العصر العباسي، أو شخصيات تتحدث في فيلم وثائقي مدبلج؟
حين نكتب، نستخدم كلمات لم ننطق بها من قبل.
نسلك كل الطرق الممكنة لتفادي التعبير بوضوح عن مشاعرنا واستخدام لغة مباشرة تخاطب القارئ، نتهرّب من كتابة كلمات مثل: "أحب .. أؤمن .. أنصحك .. أكره .. لا أعرف .."
لماذا نخفي أصواتنا الحقيقية في الكتابة، ونتهرّب من كتابة الكلام السهل وربما الساذج؟
أين شخصياتنا التي يعرفها أصدقاؤنا؟
أين آراؤنا التي نعبر عنها كل يوم؟
لماذا نخفيها تحت أكوام من التنطع والادعاء والتباهي؟
السبب هو الخوف.
نعم، الخوف من عاقبة التعبير عن الحقيقة.
ماذا لو أخطأنا؟
ماذا لو اختلف القرّاء معنا؟
ماذا لو اكتشف الجميع جهلنا وقلّة اطلاعنا؟
لهذا نجد أنفسنا في عالم مليء بالكتابة الميتة، المجرّدة من الإنسانيّة.
انظر من حولك وستجدها في:
- الرسائل البريدية للموظفين.
- مستندات بوليصات التأمين.
- كتيّبات تعليمات تركيب قطع الأثاث.
- الخطط الغذائية التي لا نلتزم بها.
ظهرت هذه الكتابة الميتة لحماية المؤسسات والدول من الأثر الخطر للكلمات، ثم انتشرت في حياتنا ولغتنا، لنختفي وراءها ونعفي أنفسنا من المسؤولية. مسؤولية فهم العالم، واتخاذ موقف منه، ثم الكتابة عنه بلغة واضحة، بصوت الراوي الذي يحكي لنا ويشرح ويفسّر ويشارك رأيه وأحلامه.
تخيّل معي للحظة عالمًا مليئًا بالكتابة الواضحة التي يتحدث كاتبها معك مباشرة، ويهمس لك مثل صديق يحكي لك قصة حدثت له.
تقرأ فيها تجربة الكاتب الصادقة، دون الالتفاف عليك باستخدام اللغة المنمقة والعالية. دون خداعك وإخفاء بنود الاتفاق عنك، أو إصابتك بالملل.
لهذا السبب نقرأ مراجعات المستخدمين على منتجات أمازون، ولا نقرأ وصف المنتج الذي كتبته الشركة. لأننا نبحث عن إنسان يتحدث معنا ويشرح لنا ما نجهله ويأخذنا معه في رحلة لاكتشاف المستقبل.
هذه 3 قواعد لجذب انتباه القارئ وإمتاعه ليقرأ كل ما تكتب:
1# عبّر عن إنسانيّتك حين تكتب.
ما سبب كتابتك لهذه الكلمات؟ ما مشاعرك وأحلامك وخيباتك؟ كيف تغيّرت حياتك بعد رحلتك لاكتشاف هذه التجربة؟
حين نُعجب بأسلوب كاتب أو روائي ما، ما نقصده هو أننا أُعجبنا برأيه وشخصيته التي عبّر عنها في كتابته.
الأسلوب ليس الكلمات الغريبة أو اللغة المعقدة، بل شخصيّة الكاتب التي استطاع التعبير عنها في كتابته بوضوح. طاقته التي أشرقت على القارئ.
لذلك عليك إظهار طاقتك الإنسانيّة في كتابتك. تحدث عمّا تحب وتكره، أخبر القارئ بتجاربك وقصصك ولا تكتب مثل آلة لم يسبق لها العيش في العالم.
2# بسّط كتابتك لتدل على عمق تفكيرك.
مَن منّا يستطيع قراءة سطرين من سياسة خصوصية موقع دون أن يصاب بالدوار؟
يقول ويليام زينسر:
"حين يتحدث الطيّار ويقول: (نتوقع اليوم جوًا غائمًا وهطول كمية من الأمطار الغزيرة)، فهو يحاول تعبئة كلماته ليزيد من مصداقيتها. بإمكانه أيضًا قول: (ستمطر اليوم.) بساطة الجملة تجعلنا نشك، هل الطيّار واثق من توقعاته؟"
والحقيقة أن ما فعله الطيّار هو جعل مهمة المستمع صعبة، وأصابه بالحيرة والقلق.
الكتابة المشوشة تدل على عقل مشوش.
لا أحد منّا يولد وهو صافي الذهن، لامع التفكير. التفكير الواضح هو عمل شاق يقوم به الكاتب وتصقله الكتابة المستمرة.
الكتابة الواضحة هي انعكاس للتفكير الواضح. الجمل الواضحة لا تأتي مصادفة، بل بعد جهد وعمل كبير.
وهنا تأتي صعوبة الكتابة: من ترتيب الأفكار وتوضيحها.
مهمة الكاتب هي الحفاظ على انتباه القارئ وأخذه في رحلة ممتعة في طريق واضح مشمس، يتعلم فيه معلومة جديدة، ويتعرف فيه على الكاتب، ويستمتع بوقته.
3# تخلّص من نفايات الكلام.
اترك الكلمات غير الضرورية، والمصطلحات التي لا معنى لها.
لا تكتب:
"في اللحظة الراهنة" بدلًا من "الآن".
"في الوقت الحالي نحن نشهد هطول الأمطار" بدلًا من "تمطر".
نفايات الكلام هي اللغة الرسمية التي تستخدمها الشركات والمؤسسات لحمايتها من المساءلة وإخفاء أخطائها، لا حاجة لك باستخدامها.
ارجع إلى آخر نص كتبته وجرّب تمرين الحذف الذي علّمه الكاتب الأمريكي ويليام زنسر لطلابه لمساعدتهم على التخلّص من الكلمات غير الضرورية في كتابتهم.
✍️ 4 خطوات لإتقان تمرين الحذف
1# ابحث عن أي كلمة، صفة، حرف جر، أو جملة يمكن حذفها دون خسارة المعنى.
2# لا تحذفها مباشرة، بل حدّدها بالأقواس.
3# بعد الانتهاء من تحديد كل الجمل في النص، اقرأ النص كاملًا واسأل نفسك: هل وصل المعنى بعد حذف كل ما داخل الأقواس؟ أغلب المسودات يمكن حذف نصفها دون خسارة المعنى حسب رأي الكاتب ويليام زنسر.
4# حين تكتب نصًا جديدًا، سيبدأ عقلك بتفادي العبارات والكلمات الفارغة وستصبح كتابتك أكثر وضوحًا وقوة في كل مرة تقوم بها بهذا التمرين.
"ابحث عن الفوضى في كتاباتك وقلّمها دون رحمة." ويليام زنسر.