جميعنا نعرف ذلك الصديق البارع في السخرية من ذاته وما حوله، يتفادى النظر إلى الحقيقة والتفكير في ردة فعل جادة لما يواجهه في حياته. من الصعب عليه تقبّل المدح، ويتفنّن في صدّ لكمات الواقع بأنواع الجمل الساخرة والحادة. لا يمكنك قراءة نواياه، وتتردد دائمًا في تصديق ما يقول.
السخريّة جذّابة لأنها ذكيّة ولامعة. بإمكانك أن تحطّم كل ما قيل لك بجملة ساخرة، دون أن تحتاج للتفكير في حجّة للرد أو لحظة للتأمل والسؤال عن المعنى أو مراجعة الذات أو تحمل المسؤولية. سأعترف أنني أستخدم السخرية أحيانًا. إنها المخرج الأقرب من كل محادثة صعبة أو لحظة مؤلمة. إنها سلاح فتّاك لتدمير العالم ورفضه. أدركت وأنا أكتب هذه الكلمات ضرورة تأمّلي لأثر السخرية على علاقتي مع واقعي.
إن كنت ساخرًا مثلي فأنت لا تعيش في الواقع ولا تقبل به. أنت تعود خطوة إلى الوراء لتستخدم ذكاءك وفكاهتك لإعلان رفضك للعالم ورغبتك في السباحة في محيطات من الاحتمالات اللانهائية. في عالمك الساخر، بإمكانك أن تضع القواعد وبإمكانك أن تكسرها. إنك ملك وإمبراطور مُطلق، ولا يمكن لأحد انتقادك. لأنك قد اعترفت بفشلك في قبول الواقع، ورفضت مساعدة مَن حولك على التفكير في حل مناسب للمأزق الذي تواجهه.
- السخرية درع فولاذي يحميك من النقد. لن يستطيع أحد انتقاد ملابسك الغريبة، إذا دخلت إلى غرفة مليئة بالأصدقاء وابتسمت لتفتتح المحادثة ساخرًا من مظهرك.
- السخرية مُخدّر موضعي لآلامك التي لا تريد الحفر حتى جذورها. بإمكانك تجاهلها، ولكنها لن تختفي وستعود لمطاردتك.
- السخرية تُدرِّب مَن حولك على إخفاء الحقائق عنك والهرب من مواجهتك. لا فائدة من انكشافهم أمامك إن كنت تَسْتتر عنهم دائمًا.
لم تكن السخرية مدمّرة دائمًا، بل كانت أداة فعّالة في الفلسفة، السياسة، والفن عبر العصور. إلا أن السخرية المهيمنة والمنتشرة في عصرنا الحالي هي السخرية من الذات، وهي النوع المدمّر الذي أقصده. باعتيادنا عليها نفشل في الالتزام بالعيش في العالم، ونخفق في محاولة إعماره.
وربما تتفاجأ إذا عرفت أن الفيلسوف الدنماركي سورين كيركيغارد كان يعتبر الساخرين رومانسيين وشعراء في جوهرهم وذهب إلى المقاربة بين المتهكمين وبين شعراء الحركة الرومانسية في ألمانيا وأوروبا. المتهكم هو شخصية رومانسية مثالية في الحقيقة. يحلم بعالم أفضل ولكنه أُعطي الواقع، فقرر رفضه بأداته الوحيدة التي يملكها: السخرية.
يقول كيركيغارد: "حين ينتصر الساخر على الواقع بفكاهته ويحرر ذاته من كل القيود، يتمكن من الوصول إلى الحياة المثالية للعيش مثل شاعر رومانسي. والخطر يكمن في وصوله إلى الفراغ والعدم حين يكتشف أن كل ما صنعه هو محض خيال."
لم أكن أظن أن طرحي لسؤال بسيط عن السخرية سيوصلني إلى العدم. وللنجاة من هذا العدم، علينا التوقف عن الهرب باتجاه السخرية ومواجهة أنفسنا:
- لأننا نعيش حياة واحدة، وإنكارها لن يخلق لنا غيرها.
- لأن الأشخاص الصادقين حولنا والذين يقضون حياتهم وهم يحاولون مساعدتنا يستحقون منّا الاعتراف بواقعنا ومواجهته بشجاعة.
- لأن مهاراتنا الساخرة والطريفة ستجد طرقًا أخرى للظهور للعالم. بإمكاننا كتابة الكوميديا أو المقالات الساخرة، أو توظيف حس الفكاهة لدينا لإسعاد مَن حولنا.
