الطبيب الذي جمع حبوب اللقاح لخمسين عامًا

محمد الضبع

محمد الضبع

04 - نوڤمبر - 2023

04 - نوڤمبر - 2023

04 - نوڤمبر - 2023

📬 دورة بريديّة مجانيّة
لإتقان فن الكتابة في العالم الرقمي، وبناء قاعدة من القرّاء الأوفياء.

📬 دورة بريديّة مجانيّة
لإتقان فن الكتابة في العالم الرقمي.

في عام 1977، قرّر خريج حديث من كلية الطب في جامعة توبِنغِن بألمانيا وضع شهادته جانبًا، ليلتزم بوعدٍ بسيط قطعه على نفسه جعله يجمع حبوب اللقاح الصفراء لخمسين عامًا.

كانت الأزهار التي اختارها لجني حبوب اللقاح لا تظهر إلا لفترة قصيرة كل عام، وليتمكّن من جمعها؛ بدأ بضبط إيقاع عمله على إيقاع فصل الربيع، ولم يتوقف عن هذه العادة حتى اليوم.

كانت أزهار الهندباء وأشجار الصنوبر وشجيرات البندق أهدافه التي يبحث عنها، واستخلص منها مسحوق حبوب اللقاح الأصفر الذي سيشكّل المادة الخام لأعماله الفنية في العقود الخمسة المقبلة.

لم يكن حصوله على حبوب اللقاح سهلًا. كان عليه العمل بحذر لتجنّب إتلاف هياكل الزهور الحسّاسة، واستخدام مجموعة من الفُرش المتنوعة لمسح حبوب اللقاح بلطف بالغ لساعات طويلة.

كيف صبر على كل هذا العناء؟ وما سبب تركه للطب ومطاردته لهذا الوعد الغامض؟

يبدو أن قصة هذا الطبيب مألوفة وتحدث مرةً بعد أخرى.

العديد من الفنانين والكتّاب والموسيقيين تركوا خلفهم وظائف وفرص ثمينة في الطب والعلوم والأعمال لمطاردة أحلامهم الشاقة والمستحيلة. لم يتوقع أحد أن عالِم الحشرات وجامع الفراشات ڤلاديمير نابوكوڤ سيكتب رواية لوليتا وسيذهل العالم ببراعته في ابتكار لغة لم يشهدها الأدب من قبل. ولم يعرف أحد أن الفتاة التي لم تستطع دراسة الطب في جامعة المكسيك بسبب حادث مريع ستصبح الفنانة المبدعة فريدا كالو.

إذا استخدمنا المنطق والاحتمالات، وحسابات سوق العمل، واستمعنا إلى خبراء الثراء السريع الذين سيطروا على وسائل التواصل الاجتماعي، فلن يكون هنالك أدب، ولا فن، ولا موسيقى في العالم. إذا اختزلنا حياة الإنسان في عملية حسابيّة للوصول إلى أكثر الطرق أمانًا لتحصيل الدخل، لن يخاطر أحد بابتكارٍ جديد، أو اختراعٍ جريء، ولن نصل إلى الكواكب البعيدة. سنتحوّل جميعًا إلى كائنات خائفة ومرعوبة، وستتوقّف الأفكار الجديدة عن الظهور.

أثارت قصة فولفغانغ لايب فضولي وبدأت بالتساؤل: كيف يمكن لأحدنا أن يخرج عن الطريق المُمهّد له، ليطارد هواية غريبة أو شغفًا لا يرى له مستقبلًا واضحًا؟

ذهبت إلى معرض لايب الفني في متحف الفن في مدينة شتوتغارت قبل عدة أيام بحثًا عن الإجابات.

حين وقفت أمام عمله الفني "حبوب لقاح أشجار الصنوبر" والذي تطلّب سنوات من العمل الشاق لجمع حبوب لقاح كافية لعرضه، أدركت أنه لم يكن لينجح في الوصول إلى هذه الدرجة العالية من الإتقان والهوس بعمله دون رفض كل النصائح والتوقعات التي تفرضها الحكمة السائدة في مجتمعنا اليوم. عليه معارضة أفكارنا المعاصرة عن استثمار الوقت، والركض نحو الأهداف، والهوس باغتنام كل ساعات حياتنا للتحوّل إلى آلات يُراقَب إنتاجها وتُكتب عنها تقارير الكفاءة والجودة.

كان فولفغانغ لايب يعمل لشهر كامل في بداية فصل الربيع ليملأ زجاجةً واحدة بحبوب لقاح البندق. ثم يعود في الربيع القادم، مستمرًا في هذه العملية الشاقة لثمانية عشر عامًا حتى تمكّن أخيرًا من الحصول على عددٍ كافٍ من الزجاجات لنثر حبوب لقاحها على بلاط معرض الفن الحديث في نيويورك سنة 2013، في أكبر عمل فني مكوّن من حبوب اللقاح في التاريخ، ليقف العالم بعدها محتفلًا بإنجازه.

ما ننساه دائمًا في ثقافتنا المعاصرة هو أن الإنجاز ليس في لحظة عرض العمل في متحف شهير، بل في دقائق، وساعات، وأيام العمل الشاق في الحقول. في تأملات الفنان وسلامه الداخلي، في عمله بصمت وحده دون مراقبة أحد. إننا نعيش في ثقافة تدفعنا إلى التركيز على النتائج باستمرار.

صدقنا الكذبة: أنّنا سنصل يومًا ما إلى أهدافنا وسنشعر بالرضا والسعادة، أنّ الرحلة ستنتهي بحصولنا على الترقية في العمل أو بشراء السيارة المثالية أو بالوصول إلى المليون الأول. لا أصدّق أن أحدًا من مدربي مهارات الحياة أو خبراء تطوير الذات الذين نستمع لهم سينصحنا باتباع طريقة لايب، وربما اعتقد أنها مضيعة للوقت والجهد. ولو كنت تستمع لأحد روّاد الأعمال لنصحك بالعثور على “مُوَرّد” من الصين لشراء حبوب اللقاح منه، وفتح متجر إلكتروني لبيعها وتسويقها للوصول إلى مليونك الأول.

ولا تنسَ فتح حسابٍ على تيك توك للرقص في الحقول والوصول إلى "جيل زد" وإقناعهم بشراء المُنتج لأن "السوق في نمو متزايد". في عالمنا المجنون وفي وسط كل هذا الركض: لقد نسينا الرحلة. نسينا النظر إلى النافذة للاستمتاع بالمشهد والتعجّب من كوننا أحياء. نسينا الدقيقة بعد الدقيقة، والساعة بعد الساعة، واليوم بعد الآخر، ولم نفكر في طريقةٍ لعيشها.

ولم نُجب على السؤال الأكبر: ما العمل الذي نريد الانغماس فيه؟ وكيف سنتمكن من إنجازه إذا لم نكن مهووسين به، وشغوفين بكل تفاصيله؟

قبل مغادرة عالم فولفغانغ لايب، هذه بعض الدروس والتأملات التي تعلمتها منه:

- اخرج من غرفتك، واكتشف الطبيعة. من الطبيعة تبدأ الأشياء وتنتهي إليها. اقترابك من دورة الفصول وخروجك من المنزل هي أولى الخطوات للاقتراب من فهم نواميس الحياة.

- استخدم حواسك. توقّف عن الكلام وجرّب استخدام حواسك الأخرى: الشم واللمس والنظر والسمع، لتعيدَ اتصالك بعناصر الطبيعة ولتصل إلى السكينة التي أوشك عالمنا المعاصر على تدميرها.

- انغمس في العمل الشاق والمُمِل، واعثر على المعنى في الطريق لا في الهدف. لأن الهدف وحده قد يخيّب أملك حين تصل إليه.

- استمع إلى صوتك الداخلي وأقدِم بشجاعة على سلك طُرقٍ لم يسلكها أحد قبلك.

وأخيرًا: حين يُسرع الجميع، توقّف عن الهلع وجرّب البُطء. ستجد فيه أسرارًا لا يعرفها المستعجلون الذين يركضون أمامك.

وقبل أن أذهب، سأخبرك بسرٍّ صغير: درست الهندسة الصناعية لسبع سنوات، وكنت أنتظر نهايات المحاضرات لأقرأ ديوانًا من الشعر في رواق الكلية، وأدوّن مطلع قصيدة في طريقي إلى المنزل. سرقت اللحظات لأكتب وأترجم الكتب، لأتمكن من العمل على ما أحب.

ماذا عنك؟ ما هو شغفك؟ وهل تنوي الخروج للبحث عن طريقك الفريد لتُنجز مهمة حياتك؟

*الصورة: فولفغانغ لايب وهو ينثر حبوب لقاح البندق على أرض مركز بومبيدو، باريس، 1992.

محمد الضبع

للتواصل والاستشارات:

© 2024 محمد الضبع

محمد الضبع

للتواصل والاستشارات:

© 2024 محمد الضبع