كيف لصبي بورتوريكي بدأ بتنظيف دورات مياه الطائرات في جزيرة صغيرة في المحيط أن يصبح مسؤولًا عن خدمة ٤٠٠ ألف مسافر و٤ آلاف طائرة تجوب العالم كل يوم؟
في أول زيارة لي للولايات المتحدة الأمريكية، في مقر العمليات والمراقبة لخطوط دلتا الجوية بأتلانتا، جورجيا، التقيت هذا الأسبوع بنائب رئيس دلتا جيمس سارڤيس وكانت قصته مذهلة.
الرجل الستيني الطريف، صاحب اللكنة اللاتينية، والصراحة المفاجئة.
سرد لنا جيمس قصته والدروس التي تعلمها في العقود الخمسة الماضية من حياته في الطائرات ورحلاته إلى مطارات العالم.
بسترته الزرقاء الداكنة، وكوب ستاربكس العملاق في يده، وصل جيمس على موعده تمامًا للحديث معنا في وفد ألماني من جامعة مانهايم جاء لزيارة مقر عمليات خطوط دلتا الجوية لاستكشاف ثقافة وأعمال جنوب شرق الولايات المتحدة الأمريكية.
تأملات جيمس في لقاءاته بالمسافرين والعابرين في الأجواء لها طابع شعري.
تحدث معنا جيمس عن الأثر السحري للقاء الغرباء في السفر، وللقوة البشرية المذهلة على استخدام الكلمات في رواق طائرة للتأثير في حيوات أشخاص لن نراهم أبدًا.
تعلّم جيمس كل ما يمكن تعلمه في نصف قرن عن العمل في الملاحة الجوية والطائرات، نقل الحقائب، والاعتناء بالمسافرين إلى وُجهات بعيدة.
قدرة جيمس الملهمة على العيش في الفوضى، والعمل كل يوم في مطارات لا يمكن التنبؤ بما سيحدث فيها، جعله الرجل الأنسب لإدارة عمليات طيران دلتا حول العالم.
في رحلته الطويلة، نجى جيمس من حادث تحطم طائرة، وعمل في مهمة مفزعة لتنظيف حطام أكبر حادث سقوط لطائرة أمريكية: رحلة خطوط دلتا الجوية رقم 191 - ليرى جثث ضحاياها الـ 129.
أحلام طفل على شاطئ سان خوان
نشأ جيمس الصغير في حضن أم وحيدة في مدينة سان خوان عاصمة بورتوريكو، وبدأ بالاعتماد على نفسه في سن مبكرة حين أدرك ضرورة بحثه عن عمل يسد به جوعه وجوع أمه.
رسب جيمس في الصف الأول الابتدائي، لأن معلمته تعبت من ترجمة واجباته من الإسبانية إلى الإنجليزية: لم يكن جيمس يجيد اللغة الإنجليزية حينها. تجاوز جيمس هذه العقبة بعد سنوات لكن لكنته البورتوريكية الثقيلة ظلت تلاحقه ولم يستطع التخلّص منها. لطالما أراد جيمس أن يصدق الجميع أن الإنجليزية هي لغته الأولى ليشعر بالانتماء إلى أمريكا.
عامل نظافة في دورات مياه الطائرات
لم يهجس جيمس الصغير بالطيران ولم تراوده أحلام السفر بعيدًا عن جزيرته الصغيرة، لكنه بدأ في سنة 1974 بالعمل في خطوط دلتا الجوية مصادفة بعد أن أخبرته معلمته في الابتدائية أن زوجها يبحث عن موظفين للعمل على تنظيف دورات مياه الطائرات التي تحط في مطار سان خوان.
آمن جيمس حينها أن طريقه الوحيد للنجاح يبدأ من تنظيف دورات مياه الطائرات كما لم يفعل أحد من قبل.
وفي وقت قصير تدرّج جيمس ليعمل في كل وظيفة طيران ممكنة. انتقل من تنظيف دورات المياه إلى تنظيف الطائرة، إلى تفريغ المراحيض، إلى تحميل الطائرة، إلى نقل البضائع، نقل الحقائب، نقل البريد، التحكم في الحركة الأرضية. حتى وصوله إلى بيع التذاكر وخدمة العملاء، الضيافة، ثم التسويق.
البرد القارس والانسحاب من الجامعة
لم يكن طريق جيمس محفوفًا بالورود وعانى كثيرًا حين انتقاله إلى ولاية تكساس في بدايات التسعينيات ليعمل على تحميل الطائرات في البرد القارس دون قفازات أو ملابس دافئة.
كاد جيمس أن يبكي من شدة البرد وسوء معاملة زملائه له في تكساس.
ناداه الجميع بـ "البورتوريكي" ولم يشعر باحترام أقرانه له. وفي إحدى ليالي العمل الباردة جاء إليه زميل لاحظ ارتجافه من البرد، اقترب منه وقال: "اصمد ولا تخف. لن تأتي ليلة أبرد من هذه بعد الآن."
وفعلًا صدّق جيمس زميله الطيّب وقال لنا وهو يحكي القصة: "ولم أشعر بالبرد بعدها أبدًا."
لم يكمل جيمس دراسته الجامعية بسبب إهانة بروفسور مادة الفن له لتأخره لخمس دقائق في السنة الثالثة من دراسته للبكالوريوس اللغة الإنجليزية. قرر جيمس بعدها ترك الدراسة ومازال يندم حتى اليوم على هذا القرار.
يقول جيمس: "تأخرت لعشرين سنة في وصولي إلى منصب قيادي في خطوط دلتا الجوية بسبب تأخري لخمس دقائق عن تلك المحاضرة وانسحابي من الجامعة."
قبل الجائحة بأشهر، وصل جيمس لمنصب الرئيس التنفيذي للعمليات في شركة طيران المكسيك، ثم انهارت الشركة بسبب تداعيات الجائحة، ليعود للعمل في منصب أقل نائبًا لرئيس عمليات التنظيف في خطوط دلتا الجوية.
لم يترك جيمس سارڤيس وظيفة في المطار أو على الطائرة إلا وقد أنجزها، وتعلّم منها الدروس.
سيحتفل فريق جيمس في شهر مايو القادم بالذكرى الخمسين لانضمامه إلى خطوط دلتا الجوية.
لا يعرف جيمس شيئًا عن هذه المفاجأة. تحدثت مع مساعدته وأخبرتني بأن الفريق يحضّر لها سرًا.
حافظوا على السر ولا تخبروا جيمس.
*وأنا أكتب هذه القصة وصلتني رسالة لطيفة من جيمس، وعدني جيمس بكتابة رسالة لقرّاء نشرة رسالة السبت، وبسبب ازدحام جدوله، سيرسلها لي الأسبوع القادم. سأنشرها لكم في نشرة العدد القادم.
