قد يبدو هذا العنوان غريبًا بعض الشيء، خاصةً في عام 2025.
كل ما حولنا اليوم يدعونا إلى التوقف عن الترجمة، إلى الاستسلام وترك الأمر للآلات.
بعد تقدّم أدوات الذكاء الاصطناعي ومحاولة استبدالنا: نحن البشر البارعين في بناء العوالم المتخيّلة، والمكبّلين بالبطء والتعب، وحاجتنا لأخذ الاستراحات لشرب القهوة، وتصفّح هواتفنا دون هدف والتهرّب من إنجاز المهام الصعبة والمُرهقة.
الحقيقة هي أن الذكاء الاصطناعي اليوم يتفوّق في ترجمته على أغلب المترجمين المبتدئين وحتى المتوسطين منهم.
لذلك، لا تبدأ بالترجمة في 2025 إذا كنت:
- تبحث عن طريقة سريعة لحصد المال والشهرة.
- تريد ترجمة أكبر عدد ممكن من النصوص في وقت قصير وبأقل التكاليف.
- تبحث عن الكمال في الترجمة دون استعدادك للتعثّر وارتكاب الأخطاء والتعلّم منها.
هنالك قائمة طويلة من الأسباب التي تدعوك للتوقف عن الترجمة.
لكني لم آتِ اليوم لأخبرك بهذا، على العكس تمامًا.
أنا هنا اليوم لأخبرك بأن كل مَن يتقن لغة ثانية إلى جانب العربية عليه البدء بالترجمة فورًا.
نعم، علينا جميعًا البدء بالترجمة الآن.
لماذا؟
تخيّل لو توقّف البشر عن استخدام أقدامهم للمشي حين عثروا على الأحصنة، وتخيّل لو توقّفوا عن ممارسة التمارين الرياضية حين ابتكروا الآلات والمركبات لحمل الأثقال نيابة عنهم.
لا يمكنك ترك الذكاء الاصطناعي يتمرن نيابة عنك.
كل أسبوع وكل شهر يمر دون استخدامك لعقلك في مهمة معقدة ومليئة بالمشكلات، هي مدة تنحسر فيها قدراتك الذهنية ويضيق فيها خيالك.
كيف ستحافظ على لياقة عقلك إن تركته دون تمرين؟
تخيّل أنك مهتم بموضوع ما، وتريد تعلمه، أو اكتشافه، وبناء مجتمع من المهتمين به، والوصول لهم.
قرار ترجمتك لنص أسبوعي في هذا الموضوع ونشره سيعود عليك بمنافع لم تكن تتخيّلها.
هذه 5 أسباب تدفعنا جميعًا للبدء بالترجمة اليوم:
1# الترجمة في موضوع محدد تشبه دراستك وتخصصك فيه.
مهما كان اهتمامك أو الحقل المعرفي الذي تريد تعلّمه، ستعينك الترجمة على بناء نظام متكامل لدراسة هذا الموضوع والبحث فيه بطريقة لم تكن تتخيّلها. كل ما عليك فعله هو اتباع فضولك والبحث عن النصوص التي وجدت فيها بعض الإجابات، ثم قراءتها وخوض رحلة شيّقة من البحث والتحري حتى تصل إلى ترجمة مناسبة لها. ستغيّرك هذه الرحلة وستجد نفسك قد دخلت في متاهات عديدة وقرأت كتبًا ودراسات مختلفة بحثًا عن الترجمة الصحيحة.
2# الترجمة أداة لإتقان اللغة.
لا يلزمك امتلاك لغة متفوّقة للبدء بالترجمة. على العكس تمامًا، بإمكانك استخدام الترجمة أداةً لتعلّم اللغة.
اختر نصوصًا تناسب مستواك في اللغة الأصل وابدأ بترجمتها. كل كلمة جديدة ستواجهك وكل جملة غريبة ستصبح بوابة تأخذك للبحث عنها ترجمة مناسبة لها. التزامك بهذا الفعل المتكرر من القراءة والفهم والبحث والترجمة، سيجعلك تقفز بمستواك في اللغة الأصل التي تترجم منها وستجعلك تصبح متفوقًا في الصياغة في اللغة الهدف التي تترجم إليها.
3# الترجمة تجعلك قارئًا متفوّقًا.
المترجمون هم القرّاء الأفضل للنصوص. تقول المترجمة فرانشيسكا رومانا: “نحن نقرأ بدقة تفوق دقة النقّاد. علينا أن نضع في الحسبان كل كلمة، كل فاصلة، كل نقطة. أما النقاد فيقفزون من فوق السطور أحيانًا."
ويقول الكاتب الإيطالي إيتالو كالڤينو: "المترجم هو قارئ من نوع خاص جدًا. فهو لا يقرأ ليستمتع، ولا ليحصل على المعلومات، بل ليتملّك النص، ليقلبه رأسًا على عقب ويعرفه مثل مؤلفه أو ربما أكثر."
4# الترجمة تعلّمك الكتابة تحت شروط صارمة.
الترجمة تدرّبك على الكتابة في بيئة مقيّدة. هذه البيئة المقيّدة هي أفضل ما يمكن للفنان أن يحصل عليه لصقل مهاراته في أيّ حقل فني. المُترجم مقيّد بالمعنى وبالسياق التاريخي والثقافي للنص وبقصة حياة الكاتب وبنبرته وصوته في النص وحس الفكاهة والمفردات والأسماء وغيرها من القيود. الأمر أشبه بالتدرّب على لعب كرة القدم ووضع أثقال على قدميك حتى تصبح قدرتك على الركض هائلة حين تترك الأثقال وتلعب الكرة دونها.
5# الترجمة أداة لصقل ذاكرتك وتدريب عقلك والحفاظ على لياقته.
استخدم علماء وكتّاب اللغة اللاتينيّة الترجمة وسيلةً وتمرينًا للحفاظ على لياقة عقولهم. كانوا يترجمون لغرض الترجمة فقط.
يقول القديس جيروم صاحب الترجمة اللاتينية الشهيرة للإنجيل: "لقد جرت عادة العلماء منذ زمن طويل تدريب عقولهم بترجمة أعمال الكتّاب اليونانيين إلى اللاتينية، وهكذا ترجم شيشرون كتبًا كاملة لأفلاطون، وكان يسلي نفسه بترجمة كتابات زينوفون في الاقتصاد."
لكل هذه الأسباب: ترجم.
ليس لأن الترجمة هي الطريق الأسهل أو حتى الأسرع للوصول إلى هدف مؤقت تبحث عنه، بل لأنها الطريق الأصعب الذي لا يسلكه أحد.
ترجم، لأن الترجمة ستفيدك أنت قبل أي قارئ. ستغيّر حياتك أنت. ستمنحك من المهارات والمعارف ما لا يمكنك الحصول عليه بأي طريقة أخرى.